اخر الأخبار

;

بيداغوجيا الخطأ

عندما ظهرت نتائج الدراسة التي أنجزتها مديرية المناهج بوزارة التربية الوطنية قبل أسبوع، بشراكة مع المنظمة الأمريكية (USAID)، والتي توصلت إلى أن ما يناهز نصف مدرسي التعليم الابتدائي يعتقدون بأن تلامذتهم ميؤوس منهم، ولا يمكنهم التعلم إطلاقا، قلنا إن تعميما بهذا الشكل مفتقد لكل مصداقية، من الناحية العلمية نظرا للعينات المختارة، ومن الناحية الأخلاقية نظرا لاختصار هذه المشكلة في رجل التعليم وعدم تحميل المسؤولية أيضا للمسؤولين الآخرين عن هذا الوضع، بدءا من المفتشين صعودا حتى أكبر مسؤول وزاري، وكذا تحميل المسؤولية للمناهج واستراتيجيات التدبير. لكن عندما رأيت الفيديو المشهور بـ«فيديو نادية»، والذي يظهر مدرسا للتعليم الابتدائي يسخر بطريقة مقرفة ولا إنسانية من تلميذة تحمل طباشير وتعجز عن كتابة الرقم 5، ازدادت قناعتي الشخصية بأن ما تقوله الدراسة أمر ممكن، وأنه آن الأوان أن ننتقل من مرحلة نكتفي فيها بإنجاز الدراسات غالية التكلفة والتي تنتهي دوما إلى رفوف الأرشيفات، إلى مرحلة البدء في محاسبة كل الذين أساؤوا لـ«نادية»، لأننا إذا قارنا حجم الجرم الذي ارتكبه هذا المدرس في حق هذه الطفلة، والجرم الذي ارتكبته منظومة التربية ببلادنا، سنجد أن هذا المدرس أساء لطفلة واحدة بينما الوزارة تسيء لعشرات الآلاف من الأطفال في عمر نادية وأقل من عمرها، ذلك لأنه من غير الطبيعي أن طفلة تبلغ من العمر 7-6 سنوات ما تزال تجد مشكلة في كتابة رقم مكتوب أمامها في السبورة.
الفيديو إذن، والذي تصل مدته إلى دقيقة ونصف، يصور فيه مدرس تلميذة ترتدي وزرة وردية، تحاول كتابة رقم 5 مكتوب أمامها على السبورة، حيث بدأت التلميذة في كتابة الرقم أمامها بطريقة جيدة، لكون أغلب مدرسي التعليم الابتدائي يعتمدون في رسم الحروف والأرقام على سبورة مقسمة إلى مربعات صغيرة، وإذا نظرنا للرقم الذي كتبه «مدرس نادية» سنجده مكتوبا بالاعتماد على المربعات الموجودة في السبورة، وذلك لكي يكون رسم الحرف أو الرقم واضحا، فـ«نادية» إن فهمت فكرة ضرورة احترام مربعات السبورة في كتابة الرقم، فإن المدرس لم يدعها تنهي كتابة ما فهمته حتى بدأ يعلق عليها بسخرية، بل ويطلب منها أن تستمر في كتابة المزيد، حيث وردت كلمة «زيدي» عشر مرات،  لذلك استمرت هذه الطفلة البريئة في الكتابة وفقا لمربعات السبورة، ليتحول هذا الدرس السيئ من الناحية التربوية، إلى جرم أخلاقي خطير، إذ بدل أن يوقف المدرس نادية وينبهها إلى خطئها، استمر في تحريض زملائها على السخرية منها، باستعمال كلمات سوقية وتعابير لا علاقة لها بالتربية، بينما نادية، بعينين بريئتين، تنظر في دهشة للمدرس تارة، وللتلاميذ الساخرين منها تارة أخرى، دون أن يشرح لها أحد منهم خطأها، كل هذا و«السي المدرس» مستمر في تصوير دهشتها وبراءتها، لكن دون أن يدري أنه بهذا الفيديو إنما كان يصور أخطاءه هو وعدم كفاءته، بل وأخطاء منظومة بكاملها هي من يستحق السخرية.
طبعا دخل البرلمان على الخط، وطالب فريق نيابي وزير التربية الوطنية بمحاسبة الأستاذ، ليشرع الوزير في إجراء تحقيق لمعرفة «الجاني» ومحاسبته أمام لجنة تأديبية، لكن في نظري، يجب محاسبة الأستاذ، ولكن لا يجب استغلال هذا الحادث المدان، لتحميل فشل منظومتنا التعليمية لرجل التعليم وحده، فعندما نجد طفلة تبلغ من العمر 7-6 سنوات ولا تعرف كتابة رقم مكتوب أمامها، فهذا يدين أولا وأخيرا منظومتنا كلها، لأن كل الأدلة تشير إلى أن تعليم أطفال المغاربة هو آخر هموم هذه الحكومة، فإذا كانت نادية عاجزة عن كتابة رقم، فإن عشرات الآلاف مثلها يسربن في العالم القروي دون أن يتمكن هن أيضا من كتابة رقم أو حرف، وبدل أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها في إرجاعهن للفصول الدراسية، فإنها تترك المجال مُشرعا لأمثال عيوش لكي يتاجروا بأميتهن، وحتى عندما لا يستفدن من أية عملية لإرجاعهن إلى الدراسة، فإنهن ينضممن إلى ملايين الأميين بالمغرب، ومن الطبيعي أن هذه الحكومة لن تفكر في مصيرهن، تماما كما لم تفكر في طريقة لإبقائهن في مدارسهن.
كل من شاهد الفيديو الشامت لا بد أنه قال في نفسه إنه لو كان والد الطفلة لما تردد ولو دقيقة واحدة في رفع دعوى قضائية ضد هذا المدرس، لأن من يرسل ابنته إلى المدرسة لا يصنع ذلك من أجل أن يسخر أحد من أخطائها، بل ليُقَوِّمها ويعلمها الصواب، تماما كما أن من يرسل ابنته للمدرسة يصنع ذلك لتتفتح شخصيتها بالعلم والمعرفة، وليس لتعود إلى البيت منكسرة وذليلة بسبب مرضية معلمها أو عدم كفاءته.
 فإذا كان خطأ نادية هو أنها لم تعرف كيفية كتابة رقم، فإن كل من شاهد الفيديو سيلاحظ أن الخطأ الأول لمدرسها هو أنه يشجعها على الخطأ، وما استمرارها في رسم «الدروج»، ما هو إلا تنفيذ لأوامر المدرس، بل إني أجزم أن دوافع تصويرها لم تكن أبدا بريئة، إذ أن المدرس كان يعلم قبليا أنها لا تعرف الكتابة وأراد التشهير بها عبر تصوير شريط فيديو يوثق خطأها، لكن لم يعلم أنه كان يوثق لبراءتها هي وعدم كفاءته هو، وإلا هل المدرس الذي لا يعرف أن خطأ التلميذ أضحى في علوم التربية الحديثة حقا مقدسا يستحق أن يؤتمن على أطفال يخطئون بطبيعتهم؟ هل يعلم هذا المدرس بشيء اسمه «بيداغوجيا الخطأ»، والتي تتأسس بالكامل على ضمان حق التلميذ في الخطأ وكيفية استثمار المدرس لهذه الأخطاء لدفع تلامذته للتعلم بدل السخرية منهم، فلو كانت التلميذة نادية تعرف كتابة رقم 5 وغيره من الأرقام، فما حاجتها لمدرس من أساس؟



أتذكر عبارة للعالم المصري أحمد زويل، الحاصل على جائزة «نوبل» في الكيمياء سنة 1999، عندما كان يقارن بين أنظمة التعليم عندنا ونظيراتها الغربية، فقال «هم يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحطم الناجح حتى يفشل». ففي حالة منظومتنا التربوية، نحن لا نساعد أحدا على النجاح أبدا، فإن كان فاشلا سخرنا منه، وإن كان ناجحا فعلنا المستحيل لنفشله.
فالذي يستحق السخرية ليس نادية، بل مدرسها غير الكفء من جهة، وجميع مكونات المنظومة التربوية من جهة أخرى، سواء الذين كونوه في مركز تكوين المعلمين، أو الذين لم يضمنوا له حقه في التكوين المستمر، ليتعلم هو أيضا معنى أن يكون الخطأ حقا مكفولا، أو الذين لم يضمنوا للطفلة نادية حقها في التعليم الأولي، لتتعلم كتابة الأحرف والأرقام وهي في سن الثالثة، بدل الانتظار إلى غاية التعليم الأساسي. من هنا لم تكن دراسة مديرية المناهج بوزارة التربية الوطنية ذات مصداقية، لأنه ليس أداء رجال التعليم وحدهم من يحتاج لتقويم، بل إن كل مكونات منظومة التربية والتكوين ببلادنا تحتاج لتقويم موضوعي، وإلا هل مدير مديرية المناهج، والذي قال أثناء تقديمه لنتائج هذه الدراسة، إن المنظومة هي «سبورة بيضاء لا أثر فيها لخط أبيض»، هل هو استثناء في هذا السواد؟
بمعنى أن معلم نادية ليس وحده النوطة النشاز في هذه المنظومة العرجاء، بل إن هذه المنظومة مليئة بالنوطات النشاز، نشاز تدبيري ومالي وتربوي وعلائقي، فمنذ الاستقلال لم يستطع وزير واحد أن يستمر في هذه المنظومة أكثر من ثلاث سنوات، وكلما جاء وزير ألغى كل ما جاء به سابقوه، فيقضي السنتين الأوليين في تشخيص الوضع الذي خلفه سابقه، وعندما يبدأ في تنفيذ ما يراه حلا في السنة الثالثة، يتم تغييره وهكذا..
فعندما كنا ننتقد قبل سنتين في هذا العمود اختيارات الوزير السابق محمد الوفا، وخاصة تخلصه من التعليم الأولي، وتجميد الميزانية الضخمة التي كانت موجهة لدعم الجمعيات والنوادي المشتغلة في مجال تعليم الأطفال من 3 إلى 6 سنوات، ثم عندما انتقدنا أيضا قراره بتجميده التكوين المستمر للمدرسين لمجرد أن بعض المقتصدين في النيابات والأكاديميات يتلاعبون بفواتير التغذية، كان البعض يصف هذا النقد بالتحامل، لكن قيمة شريط الفيديو هذا هو أنه يزكي طرحنا بقوة. فنادية البالغة من العمر الآن 6 سنوات لم تستفد من التعليم الأولي بقرار من محمد الوفا، ومدرس نادية لم يستفد من التكوين المستمر منذ أربع سنوات، بسبب قرارات هذا الوزير ذاته. وما يؤسف له، هو أن بلمختار بالرغم من إعلانه أكثر من مرة أنه «وحدو مضوي البلاد»، وأنه يختلف عن سابقه، ما يزال التعليم الأولي، وهو المرحلة الأساسية والمصيرية في تعلم الأطفال، ما يزال غير موجود نهائيا في أجندته، بل وما يزال التكوين المستمر أيضا متوقفا، إذن ليست نادية من تستحق السخرية، بل مدرسها صعودا إلى الوزير.
وهاهو بلمختار يخرج في خرجة إعلامية ليتهم رجال التعليم ويصف نصفهم بكونهم لا يصلحون لهذه المهنة، بناء على دراسة أنجزها «خبراء» معروفون باسترزاقهم مع المنظمات الدولية، والأخطر هو توظيف الدراسة لجلد رجال التعليم وحدهم دون غيرهم، واستغلال تخاذل النقابات وانشغال النقابيين في حروب الانشقاقات. فلو كان بلمختار حسن النية في تنفيذ مبدأ المحاسبة كما ينص على ذلك دستور 2011، فإن هذا المبدأ يقتضي أن يبدأ «كنس السلالم من الأعلى»، كما يقول الفرنسيون، وليبدأ من المسؤولين المحيطين به، والذين تورطوا بشكل كامل في مهازل البرنامج الاستعجالي واقتاتوا جميعا من ريعه، مديرون مركزيون يتقاضون راتب 30 ألف درهم شهريا دون أن يعلم أحد ما يقومون به تحديدا، اللهم إلا إرسال مذكرة أو مذكرتين في السنة. فمدير المناهج الذي استغل نتائج دراسة مشكوك في علميتها ليوصي بضرورة القيام بـ«صدمة نفسية» للخروج من حالة الكارثة التي تعيشها المنظومة، هو أيضا مسؤول عن كل ما اقترفه صاحب بيداغوجيا الإدماج، إذ كان من أشد المدافعين عنه، وعن «الخبراء» الأجانب الذين استقدمهم هذا البلجيكي «بوشعكاكة» على حد تعبير الوزير السابق محمد الوفا، عندما كانوا يتقاضون 3 آلاف درهم كراتب يومي من المال العام. وعندما جاء الوزير المراكشي وطردهم، «قلب الفيستة» وبدأ يمدح الوفا، وهناك تصريحات موثقة في مواقع إلكترونية كثيرة، لحوارات ومقالات له، يمدحه فيها، لكن عندما جاء رشيد بلمختار، «قلب الفيستة» مرة أخرى وبدأ يعزف على ما يستهويه هو أيضا دون خجل، وما يستهوي الوزير الحالي هو أن رجل التعليم هو المسؤول عن واقع التردي في التعليم، بينما الحقيقي هو أن هذا التردي يتحمل مسؤوليته أولا متخذو القرارات الخاطئة والمفتقدة للشجاعة والنزاهة، وإلا هل يمكن لمدير المناهج أن يكشف للرأي العام التعليمي ما ينتجه جهاز اسمه «الوحدة المركزية للبحث التربوي»، والذي يتم تمويله من المال العام، دون أن يرى أحد أي أثر له على المناهج التي يدرسها أبناء المغاربة؟
هل يتحمل بلمختار مسؤوليته ويكشف للرأي العام حقيقة ما يجري في سوق الكتاب المدرسي، والتي تتحكم فيها مديرية المناهج؟
إذن في انتظار أن تتعافى الطفلة نادية من جروح نفسية سببها لها مدرس أرعن وغير كفء، وفي انتظار أن تتم محاسبة هذا المدرس على خطاياه في حق هذه الطفلة البريئة، سيكون علينا كبلد، أن ننتبه إلى أن نادية هي من عليها أن تسخر منا، لأننا مسؤولون عن عدم تعليمها، وعن انتهاك حقها الفطري في الخطأ الذي لا يمكن التعلم من دونه.

إرسال تعليق

0 تعليقات