اخر الأخبار

;

مفتش التعليــم...مــــرة أخــــرى‎




  طلع علينا المفتش"عبد الرحمان العطار" في هذا المنتدى بمقال مغرق في الذاتية،أشاد فيه ،وبإسهاب كبير،بأدوار المفتش ومهامه  ومسؤولياته،واصفا إياه ب"الإطار الأعلى في الوزارة" الذي يطمح كل واحد من رجال التعليم وموظفي الوزارة إلى نيله. 
وفي الواقع،فليس لهذه الإشادة ما يبررها،خصوصا إذا كانت صادرة عن واحد من أبناء الدار،فالمفتش الذي يعتبره صاحب المقال من وجهة نظره "ضمير المنظومة وخبيرها"، هو،من وجهة نظرنا،"جسم غريب" في منظومة التربية والتكوين.جسم لا يمكن الركون في تفسير سلوكا ته وممارساته الخطابية إلى ما أثمره علم التربية المعاصر في موضوع المفتش وأدواره ومحددات سلوكه،فهو يعاني ازدواجية في الخطاب،ويعمل بالشيء ونقيضه.يعطي الانطباع بأنه يساير الإصلاح،ويجتهد في مواكبة"الجودة"بكل فروعها ومستلزماتها،لكن عندما يتعلق الأمر بالتدبير،يتعثر هذا المفتش ويصاب بالشلل.يعطي الانطباع بأنه ملتصق بهموم القطاع ومشاكله كما هي في الواقع،ولكننا نراه منخرطا  في نقاشات ومنازلات كلامية شبيهة بما يروج في النوادي الفكرية.يقول بأهمية التكوين العالي والمستمر للمدرس بما يكفل تطوير أساليب عمله،لكنه في العمق يشن حملة"مسعورة" ضد كل من آثر استكمال التحصيل الثقافي والمعرفي،وفي الوقت الذي تطمح فيه الشعوب والأمم الواعية بقيمة الاستثمار في ميدان التربية والتعليم إلى تنشئة وتكوين مدرسين قادرين على التعامل مع متغيرات العصر ومطالبه،يبدو-والله أعلم- أن دور مفتشينا سيقتصر على تأطير المدرسين بمصوغات بالية تكبل عقولهم،وتأسر تفكيرهم،وتفقدهم القدرة على التعبير عن حاجاتهم وطموحاتهم ومنتظراتهم من التعليم المدرسي.
وللتذكير فقط-عسى أن تنفع الذكرى صاحب المقال-فالمفتش يكاد يكون الموظف الوحيد في التعليم الذي ليس له جدول لحصص العمل،فلا أوقات للدخول،ولا اوقات للخروج،فهو الذي يحدد أوقات زيارته للأساتذة الذين يخضعون لسلطته،وقد تدوم هذه الزيارة دقائق وقد تصل ساعات حسب الظروف،يعقبها تقرير نمطي شبه جاهز،ورغم أن بعض الاستثناءات من مفتشي التعليم تقوم بعمل استثنائي لإنجاح بعض الاوراش الإصلاحية،وهي ،للأسف،باتت تستشعر غربتها يوما بعد يوم،فإن"الباقيات الصالحات" من هذه الهيئة تشتغل بالحد الادنى وتتحصن بنقابتها.
ومن المفارقات الغريبة والمدهشة-وإن كانت تبدو عادية في نظر صاحب المقال- أنك حين تقرأ الملفات المطلبية لهذه الفئة من أسرة االتعليم تعتقد أنها فئة مضطهدة ومهضومة الحقوق،ويخجل الأساتذة العاملون في القرى النائية والجبال والمداشر العميقة من طرح مشاكلهم الحقيقية حين تصلهم أصداء احتجاجات مفتشيهم"المساكين".
كنا نعتقد أن المفتش صادق في نضالا ته وهو يتحدث عن دوره في الإصلاح،وأن الوزارة قد غمطته حقه.اليوم وقد تجلت النتائج،وتوضحت الغايات،وأعيد الاعتبار،مازال المشكل قائما وما زال قطار الإصلاح يعرف الكثير من العراقيل،وحين تتعمد الوزارة تهميش نقابة مفتشي التعليم ووضعها خارج كل إصلاح وكل استشارة فيما يخص المنظومة التربوية،إنما تكون قد اقتنعت،كما اقتنع المدرسون من قبل،أن مفتش التعليم"شبع خبزا" وقفز عاليا على كل الثوابت المهنية والضوابط العرفية والقيم الأخلاقية وانشغل بتأثيث "دواير الزمان" مادام راتب السلم 11 أو خارجه مضمون ولله الحمد.
كنا نأمل أن يكبر مفتش التعليم في أعيننا يوما،ونراه وقد تخلى اقتناعا عن لعب دور"صاحب سلطة"،أو تقمص دور"البعبع"الذي يخيف..
كنا نأمل ألا يفرط في تعامله العدائي تجاه الاساتذة والمعلمين،وأن يستوعب المقولة الشهيرة"مصلحة التلميذ في مصلحة الأستاذ"..
كنا نأمل أن تنساق ممارسته التفتيشية في اتجاه يخدم التكوين والتأطير والتتبع المستمر للفعل التدريسي،والدعم المهني والنظري والعملي والمنهجي،وذلك في اطار عملية تربوية تقويمية مستمرة وتشاركية،شاملة ودقيقة،بدلا من الممارسة الهادفة إلى ضبط المنزلقات وتصيد الاخطاء وكشف العورات،وتحرير التقارير للتعثرات والثغرات في تكريس مكشوف لمنطق السلطوية واحتكار الحقيقة والحد من ابداع المدرس واختزاله في أداة للتنفيذ غير الواعي،البعيد عن مسار الاجتهاد والابداع..
كنا نأمل،ونأمل..وآمالنا كثيرة،لكنني لن أستمر في طرح المتمنيات وتوزيع"أحلام االيقظة" حتى لا أكون كتجار الانتخابات الذين يضحكون على ذقون العباد،ويتسلقون ظهورهم للوصول إلى أهداف محسوبة وضيقة..
سأكتفي بالقول إن مفتش التعليم لم يكن محتاجا في يوم من الايام إلى القيام بعملية نقد ذاتي وموضوعي واسعة بقدر ما هو محتاج إليها الآن،ووحدها هذه الخطوة ستحفظ له موقعا رمزيا في منظومة التربية والتكوين،وإذا اختار عكس ذلك،فسيكون للأسف إزاء إعادة انتاج فصل النهاية التراجيدية للبطل عطيل في مسرحية وليم شكسبير الشهيرة.

  يـــــــوسف كـــــــريم   

إرسال تعليق

0 تعليقات