اخر الأخبار

;

قم للمعلم...سيرة بوكماخ

قم للمعلم...1 : هل كان مؤلف نصوص أم رجل منهاج؟ 
هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة.هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية.
و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت .
في إطار البحث عن مراجع تفيد في الكتابة عن معلم الأجيال سيدي أحمد بوكماخ، قررت، بعد اتصالات عديدة بإحدى بناته، اتصالات لم تعط أكلا نظرا لتعذر لقائي بإحدى بناته، لأسباب لا تعلمها إلا هي بعد الله عز وجل ؛ قلت، في هذ الإطار، و أمام شح و بخل أقرب الناس إليه في إمدادي ببعض المعلومات الضرورية لتناول حياة معلمنا الرائد ، قررت الذهاب إلى الرباط للاتصال بقسم البرامج بوزارة التعليم الابتدائي. وهناك كان علي ملأ ورقة أبين فيها سبب الزيارة. فكتبت بالخانة المخصصة لهذا الغرض : « القيام ببحت حول سيدي أحمد بوكماخ « بكل فخر و اعتزاز . وكنت أنتظر في قرارة نفسي، أن تقابلني كاتبة رئيس قسم البرامج بكلمة ترحيب أو ابتسامة تشجيع كما يقابل في البلدان المتحضرة أولئك الذين يأخذون على عاتقهم المساهمة في الصرح الثقافي بالبلاد.
أولا، على تناولي شخصية لم ينتبه لمرورها بيننا أحد، ولم يعترف بعطاءاتها مسؤول.
ثانيا، لقيامي ببحث حول مثقفينا في وقت لم يعد أحد يتناول بالبحث أحد.
لكن كاتبة رئيس المصلحة هاجمتني بسؤال فاجأني إلى حد الغضب:
- « من هو بوكماخ هذا ؟ « سألتني الكاتبة بقسم البرامج بوزارة التعليم.
ابتسمت تهكما حتى لا أصرخ في وجهها غضبا قائلا :
- «هو من علمك وعلم أباك وعلم من يرأسوك كمان» كما يقول المصريون .
لكني تمالكت أعصابي و قلت في هدوء يشبه هدوء ما قبل العاصفة :
« ? «هو من ألف لنا نحن جيل بداية الاستقلال كتاب إقرأ. ألم تسمعي يوما بهذا العنوان ؟ «
لم تجب على سؤالي واكتفت بالقول:
- مصلحتنا إدارية أكثر منها بيداغوجية ، عليك أن تتصل بملحقة للا عائشة، حيث توجد مصلحة المناهج ثم سطرت لي العنوان على وريقة . كتمت غيظي وخيبة أملي في مصلحة للبرامج بوزارة التربية الوطنية تضع على رأس كتابة رئيسها من يجهل اسم أحد المعلمين الأوائل الذين أسسوا للتأليف المدرسي ببلادنا. وقلت في نفسي : غبي أو جاهل من يتساءل عن تردي المستويات بمدارسنا وكلياتنا .
وأنا بسيارة الأجرة ظللت أتساءل :
هل أحمد بوكماخ كان مؤلفا لنصوص برمجت بأقسام الابتدائي أم كان رجل منهاج؟
المنهاج معناه كيفية تعليم لغة ما أو مادة ما .
هل أحمد بوكماخ جاءنا بمنهج ما ؟
بمعنى آخر هل جاءنا بكيفية جديدة لتعليم اللغة العربية أم جاءنا بنصوص ندرس من خلالها اللغة و نتعلمها ؟
المشاع عن السي أحمد أنه كان يستلهم نظريته في تعلم اللغة من المناهج الغربية وخصوصا منها «طريقة بلانشار « رغم أن كتب هذا الأخير لم تنشر إلا بعد ظهور « إقرأ» بسنين.
و المعروف أن السي أحمد مؤلف و ليس منظر في المناهج.
و لما نعود إلى ما هو مسطر على رأس غلاف سلسلة « إقرأ» نقرأ عبارة:
« قررت وزارة التعليم استعمال هذا الكتاب لقسم ...»
أو « قررت وزارة التعليم تدريس هذا الكتاب بأقسام ....
فكتبه إذن برمجت بأقسام المدارس الإبتدائية من لدن الوزارة.
وعليه، ( إذا استعملنا لغة القانون ) ، فهو ينتمي لمصلحة البرامج و ليس لمصلحة المناهج.
كيف يمكن أن تفسر هذا للمسؤول عن قسم البرامج ؟
وكيف تراه، حتى يتسنى لك هذا التوضيح، وهو محاط بسياج من الشواش ( ومؤخرا رجال الأمن الخصوصيين ) أو كاتبة صماء بكماء؟
أقول في نفسي دائما و لا زلت أردد، أن المغرب سيكون قد قطع أشواطا عديدة على سلم التقدم في الوقت الذي ستلج فيه إدارة ما، فتجد مكتب المسؤول ( و لا أقول الرئيس ) مفتوحا ، ليستقبلك بابتسامة مؤدبة و هو يسألك : هل من خدمة سيدي؟
ما علينا هذا موضوع آخر .
وصلت إلى ملحقة للانا عائشة و دلوني على مصلحة المناهج.
مكتب صغير بالكاد يتسع لموظف واحد، وإذا بي أجد به موظفين ، جنبا إلى جنب، و كأني بهما بإحدى حافلات الدار البيضاء. فقدمت نفسي والهدف من زيارتي بكثير من التواضع، بعد تجربتي مع كاتبة رئيس قسم البرامج . أخبرني أحدهما أن المسؤول يحضر اجتماعا مهما. وقد يتأخر طويلا ولا يمكن لغيره إفادتي في الموضوع الذي جئت من أجله. فقلت أن لدي من الوقت ما يسمح لي بالانتظار حتى نهاية التوقيت. فبادر الموظف بالقول:
« في الحقية هو لا يوجد باجتماع ولكنه فقد أحد أقاربه و لن يتأتى له المجيء اليوم للعمل «
فقلت  هل لكم أن تمدوني برقم هاتف المصلحة كي أتصل به وأتفق معه على موعد للزيارة ؟
فقيل لي أنه لا يوجد بالمصلحة هاتف.
قلت إن لديه و لا شك هاتف نقال؟
فكان الجواب أن لا أحد يعرف رقم هاتفه النقال.
وهنا تملكني غضبي كالمعتاد، فأزلت قناع الرجل المتواضع و قلت :
« أنا هنا بمصلحة المناهج . جئت إليها من بعيد و لن أعود خاوي الوفاض. عليكم أن تدلاني على شخص ما أو مصلحة ما للحصول على ما جئت من أجله . لا يمكن لأي نظام أن يتوقف عن النشاط بغياب أحد عناصره؛ و كما يقول العجم، لا أحد يستحيل الاستغناء عنه . «مات الملك ، يحيى الملك.»
فقال الثاني من الموظفين الذي ظل ملازما للصمت كأن الأمر لا يهمه :
«كل ما يمكن أن نقدمه لك هي بضع كتب القراءة التي كانت مبرمجة بأقسام الابتدائي، و التي كنا قد حضرناها لعرضها ضمن الكتب العتيقة.»
قبلت العرض . فأخرج لي كتبا قديمة فعلا ، كانت مبرمجة بأقسام الابتدائي . منها: «القراءة المصورة» و « القراءة المفسرة « و « القراءة العربية». وهلم قراءات. . .
تفحصتها وأنا أتساءل :
بعد قليل من الغضب المكبوت، وكثير من التفكير، وجدت أنها ستفيدني في باب مقارنة كتب سيدي أحمد مع المؤلفات التي سبقته. سألتهما إن كانت توجد بالمصلحة آلة ناسخة تربحني شيئا من الوقت. فضحكا و قال أحدهما : « لا يوجد هنا إلا نحن في الحقيقة. «
وفي الحقيقة حتى هؤلاء الموظفين غير موجودين، ما دام وجودهما لا يفيد الزائر في شيء.
فعندما يتلكأ الصحفيون لصعوبة حصولهم عن المعلومة أمر أتفهمه . فقط لأن المعلومة هنا قد تكون سياسية وقد تجر على من يتكرم بها عواقب لا يتحملها إلا هو، نظرا للاحتياط الأمني الذي لا زال يلف الكثير من مصلحاتنا الإدارية؛ ولكن أن تغيب المعلومة في الميدان الثقافي، فهذا فعل يعيدنا إلى ممارسات إدارية ما بعد الاستقلال .
ما يحز في النفس، هو أن هذا الموظف الذي ما أن يقبع وراء مكتبه حتى « يتميطامورفوزا « و يصبح حارسا بعيون بلاستيكية وآذان صماء لا يعطي الفرصة لأي معلومة أن تنفلت من ملفها. ومع ذلك، تجده بالمقهى يتشدق بكلام مخالف لممارساته داخل عمله من قبيل :
« وا افرانسا امشات ابعيد آخي . « أو « انصارى بزاف اعلينا. «

 أعلم سيدي أنك توفيت في العشرين من شهر شتنبر من السنة الثالثة والتسعين بعد تسع مائة و ألف، بعد مكوثك شهرا بأحد المستشفيات بباريس قصد العلاج؛ كما أعلم أنك عشت 73 سنة، قضيت منها ما ينيف على ربع القرن في خدمة الناشئة.ورغم ذلك لما قالوا مات أحمد بوكماخ، قلت لهم لا. . . لم يمت.
ما زال حيا في كتبه يلهم المربين والمدرسين و المؤلفين، و عليه سيدي، قررت أن أوجه لك خطابي هذا، متحدثا إليك، بدل الحديث عنك باستعمال ضمير الغائب . فقط لأنك حاضر بيننا، فإن لم تك كذلك في قلوبنا، فأنت حاضر بين صفحات سلسلة «إقر أ»، و»القراءة للجميع»، المعدة من جانبك لمحاربة الأمية بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية و الصناعة التقليدية، ثم كتب « الفصحى « دون أن ننسى، طبعا كتاب «الرياضيات»، إضافة إلى مسرحيات « نور من السماء « و «فريدة بنت الحداد» و «رسالة فاس « ؛ مؤلفات لا يعلم بوجودها إلا المقربون منك.
اسمح لي معلمي أن أنحني بادئ ذي بدء ، إجلالا لك . أنحني انحناءة المريد لشيخه . ولأن أنحني أمام من علمني كلمات تحركني، انحناءة اعتراف؛ لخير لي من أن أنحني طمعا في منصب، يجعل مني دمية تحركها خيوط الهواتف.
بحت عن اسمك بين شوارع هذه المدن الطويلة، العريضة وأزقتها الملتوية، الاقتصادية منها و الثقافية ، الساحلية و الجنوبية ، و حتى وسط مدينتك طنجة، فلم أجد شارعا ولا ساحة ولا حتى زقاقا، مظلما، منسيا، يذكر بمرورك بهذا الوطن، اعترافا لك بما أسديته لأجيال ما بعد الاستقلال من خدمة. من حسن الحظ أن مؤسسا لمدرسة خاصة بمدينة تازة انتبه فأطلق اسمك على مؤسسته. وهكذا ظل التعليم الخصوصي ( الحر حسب تسمية ما قبل الاستقلال ) وفيا لك. فاحتضن اسمك بعد ما نسيك الجميع ، كما فتح لك أبوابه وأنت لا زلت بعد نكرة.
عفوا سيدى، علمت أخيرا، وبعد كتابة هذه السطور بأشهر، وحضوري أول ندوة نظمت تكريما لك بمدينة طنجة، بتاريخ الأول و الثاني من شهر يونيو 2012 ، أي بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات على وفاتك ، أن ساحة بطنجة أصبحت تحمل اسمك، فهنيئا لك؛ رغم أن ما قدمته من خدمات لهذه البلاد، يعطيك الحق في أن تحمل مدينة بكاملها اسمك ، و أن تخلق جوائز تربوية باسمك. لا عليك التاريخ يمهل ولا يهمل.
وربما بسبب هذا الإهمال من لدن أصحاب الشأن التربوي عندنا، العديد من أفراد هذه الأجيال سيدي، التي تتلمذت على صفحات كتبك «إقر أ « وأصبحوا اليوم من حاملي الشهادات العليا، نسوا أنه بفضل كتب «إقرأ»،أي بفضلك أنت الذي نذرت حياتك من أجلهم، فدفنت نفسك في مكتبة فتح لك أبوابها سيدي عبد الله كنون، داخل مدرسته التي كنت تدرس بها، و قبلت أن تعيش في بيت متواضع بنفس المدرسة، هروبا إلى الخلوة والسكينة لتتفرغ إلى المطالعة والتأليف، أقول بفضلك سيدي أنت، الذي لم تلتفت إلى مجهوداتك ولو جمعية من تلك الجمعيات التي تحمل أسماء الجبال والسهول والحيوانات،وتشتت الميزانيات ذات اليمين و ذات الشمال، بفضلك أقول،استطاع العديد من أفراد هذا الجيل الذي أنتسب إليه، الحصول على باكالوريته، ليشد الرحال إلى جامعات ما وراء البحار، ويعود إلى البلد وفي محفظته شهادة مهندس أو طبيب ؛ وعلى لسانه أخبار فناني الغرب من مغنيين وراقصين ونحاتين، ولاعبين ومصممي أزياء الموضا،ناسين أسماء لها عليهم فضل كثير . أعتقد أننا نحن جيل ما بعد الاستقلال، جيل اشترى العلم بالجهل. تعلم شيئا وغابت عنه أشياء. قايضنا ثقافتنا بثقافة الغرب، مع العلم أنه كان من المفروض، إضافة إلى تحصيل العلوم العصرية، الاحتفاظ بكلتا الثقافتين.
سألت بعضا من أفراد هذا الجيل : « هل تعرفون من هو أحمد بوكماخ «
فأجاب البعض منهم : «هو شاعر ربما.»
و أجاب القليل منهم جوابا استفهاميا :
«أليس ذلك السيد الذي كان يكتب كتب المطالعة ؟»
وعندها قلت لنفسي، عجيب أمر هذا البلد ، بلدي. فأنت تجد على صفحات مجلاته و صحفه وعلى أثير إذاعاته وشاشات تلفازه كل « الكمامير» التي لا ترغب في رؤيتها حتى في الجنة، أو لقياها يوم الحساب؛ ولكنك لا تجد صورة واحدة و لامقالا يعرف بؤلائك الذين تفانوا أو لا زالوا يتفانون في صمت و تحت الظل في خدمته.
لا عليك سيدي ، فالعديد من كبار هذا الوطن ماتوا غيضا.
ماتوا صمتا. أو ماتوا في نسيان تام .
من يتذكر اليوم من بين مثقفينا ، ولا حتى من بين مؤرخينا، محمد البقال و اثنا عشر شهيدا من رفاقه الذين أعدموا من قبل القوات الفرنسية ؟
من يعر ف «لحسن ويدار» الذي لقبه صعاليك الثانوية التي تحمل اسمه ب: «لحسن لمودر «؛ وهو فعلا ضائع بين كتب تاريخ المغرب ولا يجد بعد من بين مؤرخينا من يفتح له نافدة يطل علينا منها.
مادا كتب في النقد الفني عن أحمد والمعطي البيضاويين، وعن محمد فويتح ؟ و لن نذهب بعيدا . ماذا كتب عن عبد النبي الجراري المربي الفني لأجيال ما بعد الاستقلال ؟
من يعرف الحنصالي المسمى أصلا المعطي التادلاوي، المعروف عند الفرنسيين ب «أسد تادلة» لأنه أذاقهم العذاب والمدلة؛ ورغم ذلك، لم يمنع صيته الذي دوى في بداية مقاومة الإستعمار الفرنسي، لم يمنع هذا الصيت جماعة بالدار البيضاء من أن تسرق منه اسم شارع، لتهبه لدكتاتور إفريقي كان يسمى « هوفيت بواني «. كان ينادي الجنيرال دوكول ب: « بابا «
نفسي تحدثني سيدي، على أنك، أنت، أيضا، مت غيضا. لا شك أنك تعلم أنت الذي خبرت التأليف المدرسي الذي أصبحت اليوم مسالكه ملتوية ومؤدى عنها، كما تؤدى تسعيرة الطريق السيار؛ و لم تكن كذلك في عهدك، لأن ناشرك السيد محمد جسوس، كان على دراية بالباب الرئيسي لولوج ميدان التأليف المدرسي، كما كان على رأس الوزارة أناس من طينة محمد الفاسي، يجري حب الوطن في عروقهم ، فكتب مقدمة لكتابك الأول قصد تشجيعك على الإستمرار.
لا شك أنك علمت قبل وفاتك، أن على كل مؤلف أراد أن يعبر كتابه دواليب التوقيعات بسلام، و يستقر على طاولات التلاميذ المتلقين، أن يضع اسم أحد النافذين بالوزارة على غلاف كتابه المدرسي ؛ مع العلم أن هذا الموظف السامي، الذي نال نصيبه من الكعكة، لم يكتب خطأ من ذلك المقرر لا ولا اطلع على محتواه حتى.
لقد انخرطت أنت سيدي، في التأليف المدرسي، غيرة على وضعيته في بداية الاستقلال، حينما وجدت الساحة خالية من أي مرجع تعليمي وطني ، إلا من بعض الكتب المستوردة من الشرق، و حينما عانيت أنت نفسك، وأنت طالب بمدرسة سيدي عبد الله كنون الخاصة، من غياب المراجع التعليمية. فشمرت على ساعدك و قررت أن توفر على جيلنا عناء البحث عن مقررات، وانغمست جادا و مجهدا في تحضير ما تيسر لك، مترجما لنصوص أجنبية تارة ، بمساعدة زميلك و صديقك الأستاذ أحمد الحرشني الذي كان ملما باللغتين الفرنسية والإسبانية ، ومستلهما تارة أخرى من نصوص من سبقوك؛ إلا أنك كنت مبدعا لكثيرها في غالب الأحيان.
هل جاءك سيدي حديث التعليم الخاص قبل أن ترى الثرى ؟
لا . لا أريد الحديث عن التعليم العمومي ، ولا يمكن الحديث عنه قبل تناول الخصوصي. لأن هذا الأخير يعتبر نواة التعليم العمومي حسب ما جاء بكتاب جون جيمس ديمس (حركة المدارس الحرة بالمغرب ). الأكثر من هذا، أن التعليم العمومي في بداية الاستقلال كان يحاول أن يحدو حدو التعليم المسمى « الحر « آنذاك و تقفي تجربته على اعتبار أنها تجربة ناجحة على مستوى تعريب المواد ولقد سبقت الإشارة إلى ذلك في تناولنا لوضعية التعليم في بداية الاستقلال.
فالحديث عن التعليم الابتدائي الخصوصي في بلادنا، انطلاقا من الثمانينات، يعفي من التطرق إلى العمومي؛ ذلك أن الأول أصابه مرض « ادفع «، كما أشار لذلك أحد المتدخلين خلال الندوة المنظمة باسمك، أما الثاني فقد أصابه الشلل، فبدأ ينفض من حوله القريب والبعيد، تاركينه وحيدا على مقاعد من خشب.
أعلم أنك بعثت بناتك إلى المدارس الخصوصية، شأنك شأن آباء كثر، صلوا صلاة الجنازة على تعليمنا العمومي.
ولاشك أن بنتيك فدوى و نازك جاءتاك، ذات عودة من المدرسة، بلائحة الأدوات المدرسية. فوجدتها طويلة طول عدد أخطاء المسؤولين بوزارة التعليم .
اشحال منك يا اكنانش؟ و اشحال منك يا اكتوب ؟
وعندها ضحكت ضحكة طويلة حتى استلقيت على قفاك؛ كتلك التي كنت تطلقها بمقهى الميتروبول حتى تلفت انتباه المارة، كما أخبرني الكثير من أصدقائك.

 هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة.هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية.
و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت .
من حقك أن تضحك، أنت الذي كتبت في كتاب الفصحى الجزء الثاني، بالصفحة الثانية التي تتضمن مقدمة الكتاب :
«- لأسباب عدة: تربوية وبيداغوجية واقتصادية كذلك ، أصبح من المؤكد، بل من الضروري أن يؤلف للتعليم الابتدائي كتاب واحد متكامل لجميع مواد اللغة العربية، بدل كتاب لكل مادة أي للمطالعة كتاب وللنحو كتاب و لتركيب الجمل كتاب.»
الشيء نفسه صرحت به لصحافي الخضراء في ثاني مقابلة لك معه .
طبعا لم تكن ضحكتك هذه تهكما. فأنت لست الشخص الذي يتهكم من الأشخاص فبالأحرى أن تتهكم من مقررات تخص مستقبل الناشئة . هذا ما يشهد به تلميذك و صديقك الأستاذ عبد الصمد العشاب، في باب خصصه لك من كتابه « رجالات الشمال « حيت يقول :
« كان في كل المواقف صريحا. يقول بالرأي الذي يؤمن به. لم يحمل ضغينة لأحد.ولم يروا عنه أنه أساء لأحد .»
قد تكون ضحكت غيظا.
فإذا كان من الحب ما يقتل، فإن من الغيظ ما يضحك.
ضحكت من الغيظ، سيدي، أنت الذي ألفت كتابا واحدا، كان كافيا لتعليم اللغة، بدءا من القراءة إلى التعبير، مرورا طبعا بالنحو والتراكيب.
تخيلت بنتيك وهما ذاهبتان إلى المدرسة،يحملان ما طلب منهما من الكتب بواسطة محفظة، كبيرة، ذات عجلات صغيرة، كتلك التي نستعملها في أيامنا هذه للتبضع بالفضاءات التجارية الكبرى. نعم مثلها تماما. و قد أصبح تلاميذ الأقسام الأولى يستعملونها اليوم للأدوات ، صنعت بالمناسبة لهذا الغرض؛ يتم شحنها بدفاتر من كل الأحجام والألوان، و كتب قليلها من المغرب و كثيرها قادم من بلاد فولتير.
أخذني الفضول سيدي، أنا المعلم مثلك، و أنا أهيء هذا الخطاب لك وعنك، فطلبت من أم أن تعد دفاتر و كتب المقررات التي طلبت من ابنيها .
ذهلت عندما أخبرتني تلك السيدة، بنبرة المشتكي، ظنا منها أنني قادر على تغيير الأشياء أو على الأقل خلخلتها، أن محفظة ابنها الأكبر وهو بالفصل السادس ، تحوي إثنى عشر( 12) مقررا و خمسة عشر(15) دفترا من حجم خمسين صفحة إلى مئتين صفحة ؛ فيما تحوي محفظة ابنها الثاني الذي لا يتعدى مستواه الابتدائي الأول أثنى عشر (12 ) دفترا وتسعة (9) مقررات.
أي سياسة تعليمية هذه سيدي أحمد، لا تضع نصب أعينها وهي تقرر، سن التلميذ وقدرته وأبيه على التحمل ؟
صدقني معلمي إذا قلت لك إني رأيت بأم عيني أباء يحملون محفظات أبناءهم أو يجرونها متجهين في سرعة غير معتادة، لضيق الوقت، نحو المدارس ، في حين، كان الأولاد يهرولون وراءهم مجهدين أنفسهم. فأوحى لي المشهد بفكرة بعد ما أضحكني، وقلت في نفسي، لو فكرت الدولة في محاربة الأمية الثقافية عند الآباء لتعويدهم على القراءة فتسمح لهم بالعودة إلى المدارس، ساعة قبل الذهاب إلى عملهم، لكان في المبادرة نفع كثير للجميع. يتدرب الآباء على التثقيف، وفي ذات الوقت، يساعدون أبناءهم على إيصال المحفظة إلى المدرسة.
أصبح التعليم الخاص بعدك تجارة مربحة يا سيدي، بعدما كان مقاومة، وغيرة على البلاد و توابتها اللغوية و الدينية. فتطفل عليه، نظرا لفاقة أصحاب الإختصاص المادية، أصحاب « الشكائر» من «كرابين « ( عفوا لا أقصد هنا بائعي الماء ) ومروجي المخدرات و بنائين و لحامين ، و مؤخرا بعض النافذين بوزارة التعليم أو المقربين منهم من أصهار وغيرهم. و عوض أن يتنافس هؤلاء المقاولون الانتهازيون في تحسين المقررات ومساعدة التأليف المدرسي في النشر والإبداع وتطوير المناهج ، تنافسوا في إعلاء البنايات وتوسيعها، لكي تبلع أكبر عدد ممكن من الخلائق، ولا أقول التلاميذ؛ لأن التلاميذ لا تحشر منهم تمانون في قاعة واحدة؛ كما تنافسوا في طلي بناياتهم ( ولا أقول المدارس لأن العديد منها لا يتوفر على شروط البناية التربوية ) بأجود الصباغات وأبدعوا في استيراد مقررات أنجزت لمجتمعات غير مجتمعنا ومدراء بأعين خضر ولسان عربي ملتوي؛ و كل ذلك لتبرير الزيادات على رأس كل سنة ويصبح من حقهم أن يقولوا لأولياء أمر زبائنهم: «إدفع «.
ما يثير الإستغراب، هو أن هذه المدارس الخاصة ، وخصوصا منها الإعدادية ، خلال السبعينيات، لم يكن يلجأ إليها إلا من لفظهم التعليم الابتدائي العمومي؛ أولئك الذين لم يعد لهم مقعد به، بعد ما استنفذوا السنوات المسموح بها من كثر التكرار . أما التعليم الخصوصي الابتدائي، فكان يوجه له أبناءهم أولئك الآباء الذين يرغبون فقط في أن تربح فلذات أكبادهم بعض السنوات ، إذ كان يتم التسجيل به حالما يبلغ الطفل السنة الخامسة من عمره .
ولكن لن يفوتك سيدي أن تلاحظ، قبل أن تقضي نحبك، وأنت من ذوي الإختصاص، كما لاحظت وأنا مدرس خلال الثمانينات، أنه ما أن بدأ النافذون في السلطة التعليمية يستثمرون بالتعليم الخصوصي، حتى بدأ مرض الإهمال، وبقدرة قادر، يتسرب للتعليم العمومي، كأن الأمر كان مقصودا. فرأينا المقررات تتجدد بمجيء كل سنة دراسية . وتتعدد
المقترحات والمناهج بتعدد تعيينات الوزراء. كل وزير يعين، يأتينا بمقترحاته المدعية للتجديد ومناهجه المستوردة، ومؤلفيه من بني عمومته أو زملائه في الدراسة.
خلال حقبة الثمانينات بالذات، بمناسبة إضراب 81 - 82 ، سئل أحد وزراء التعليم خلال برنامج بث على الهواء،عن ثمن الدفتر الواحد من حجم 50 ورقة، فأجاب ضاحكا لإخفاء جهله، أنه لا علم له به. لو جاء جواب كهذا على لسان أحد الوزراء بالدول التي تحترم مواطنيها لأقيل من منصبه.
و خلال برنامج آخر بفرنسا هذه المرة، سئل السيد ميتيران في مقابلة جمعته بالرئيس جيسكار ديستانغ، بمناسبة الإنتخابات الرئاسية عن سعر الدولار تلك الليلة، فكان للصحفي، قبل أن يرتد إليه طرفه، الجواب الصحيح ،مع العلم أن السيد ميتيران ليس له تكوين اقتصادي كما كان للسيد جيسكار.
في الحقيقة،إن الحافز الرئيسي وراء إجراء العديد من المسؤولين لتغييرات بالبرامج و المناهج لدى تعيينهم، تكمن وراءه مصالح مادية ضيقة ودقيقة؛ يحاولون تحقيقها قبل أن يفاجئهم قرار العزل أو الإقالة. يبدو أن عشر سنوات من بعد الإستقلال، أي ابتداء من النصف الثاني تقريبا من الستينيات، ظهر تغير في العقليات، وكأن الناس استفاقوا من غفلة بعد فتور حماس الإستقلال؛ فدب في النفوس جرثوم الوصولية و المحسوبية والتسابق على الثراء السريع السهل أي الريع. وبدأ كل يبحث في قطاعه أو ميدانه عن وسيلة للإغتناء الخفي تارة والمفضوح تارات أخرى. فتغير كل شيء .
وهكذا أصبح الكتاب و الدفتر يخضعان لما يخضع له أي منتوج تجاري، وهو الموضوع الذي تنبه له أحد المتدخلين بالندوة المذكورة، حيت قال:
« في هذه الحقبة ظهرت محتشمة «المؤسسة التربوية المقاولة» .
فوجئنا بالكتاب المدرسي ينفذ من الأسواق، فتزدهر مع نفاذه التجارة السوداء، ويقل أو يسحب الدفتر من حجم الخمسين ورقة، فقط ليرغم الآباء على اقتناء الدفتر من حجم المائة ورقة. و تغيب الكتب المبرمجة خلال السنة نفسها ليرتفع ثمنها في السوق السوداء. . . و هكذا دواليك، فارتأت العديد من المؤسسات التربوية حل المشكل، إلا أن هدفها الخفي كان الربح. وحينها تكلفت ببيع - و لا أقول بمد - تلاميذها بما يحتاجون إليه من مؤلفات مدرسية وأدوات.
في مداخلة لأم خلال برنامج تناول موضوع الأدوات المدرسية بت بالإذاعة الوطنية على الساعة الثامنة صباحا، بمناسبة الدخول المدرسي لسنة 16- شتنبر 2011؛ قالت الأم أن نصف أوراق الدفاتر التي اقتنتها لابنها ظل فارغا. وأضافت متعجبة :
« لماذا يطلب من التلميذ شراء دفاتر من حجم مائتي ورقة وهم يعلمون أنه لن يستعمل منها إلا خمسين ورقة إذن.»
إن هذه الأم المسكينة لا تدري أن العملية مؤامرة تجارية و ليست اجتهادا تربويا.
اسمح لي سيدي إن أنا أطنبت في الكلام. أعلم أن حديثي لن يكون ثقيلا عليك أنت الذي أحببت التعليم حتى النخاع والتأليف حد الإدمان، حسب ما ذكر لي صديقك و تلميذك في مادتي الحساب و الجغرافية، الأستاذ عبد الصمد العشاب . وعن طريقه علمت أيضا أن المنية وافتك وأنت في صدرك الكثير من التعليم، إلى درجة أنك لم تتمم معجمك اللغوي، الموسوم حسب ذاكرة الأستاذ عبد الصمد ب: المحيط الموجه للتعليم الأساسي.
واسمح لي أن ألقبك بالشيخ، مع أنني أعتبرك رسولا.
أطلب الإعتذار منك لسببين . أولهما أنني على يقين من أنك لست من الأشخاص الذين يجرون وراء الألقاب، لأن من يحفر وينقب في أمهات الكتب، ليس له من الوقت ما يكفي للجري وراء الألقاب و الجوائز والإمتيازات.
كان من المفروض أن تكون، لو كانت لديك مطامع سياسية أو طموحات وصولية، من بين ألمع كوادر حزب الإستقلال، فتستفيد من المناصب التي وزعت هباء منثورا، وتعين قائد قبيلة أو عميد حي؛ علما أن هذا الحزب، كانت أطره تصول وتجول غداة الإستقلال وفي بدايته، بعدما تسلم مقاليد الأمور داخل الحكومة.
لقد قرأت ما أجبت به صحفي جريدة الخضراء العدد الثاني لصيف 1990 عندما سألك: لماذا لم تتقدم لإنتخابات بمراكش، أنت المعروف بالمغرب برمته، كما أوحى لك به ذلك المراكشي الذي كان جالسا بجانبك بالمقهى. فأجبت :
«لا . . .أنا لست مستعدا لهذا النشاط .إنني لست رجل سياسة. لست مخلوقا للعمل السياسي ولا أميل إليه إطلاقا... ولن أقبله. . . أنا إنسان من نمط آخر.إنني أميل إلى القراءة والدراسة.».
فعلا ، أنت تحمل مشروعا تربويا، ومن أجل هذا على ما يبدو، ظللت فقط تتعاطف مع حزب الشورى والإستقلال الذي كانت تربطك بأحد أطره، السيد عبد القادر برادة، علاقة صداقة. ولن يفوتك و أنت الشغوف بالتعلم أن تستفيد ? ولو عن بعد أو من خلال صديقك ? من فوائد هذه المدرسة لتكمل ما فاتك في الكتب.
فرغم قربك من السي عبد القادر برادة، ووجودك ببيته خلال مناسبات عديدة ، لم تتعدى علاقتك بالحزب مستوى التعاطف . فضلت النضال الكبير وهو التربية والتدريس على النضال الصغير ، أي السياسة و مناوراتها و دسائسها؛ وهذا ورب الكعبة لهو النضال الحقيقي بما تحمله الكلمة من معنى سامي .
وأعتذر لك على تلقيبك بالشيخ ثانيا، لأن رغم ما أكنه لهذا اللقب من عطف واحترام، أجده لا يتسع لشخصك. حقا، فأنت تلتقي مع الشيخ في كون لكل منكما مريدوه. ولكن، إذا كان الشيخ يستطيع تعداد مريديه، فمريدوك لن تستطيع أنت إحصاءهم. فحتى وزارة التعليم لا تتوفر على عدد التلاميذ والمعلمين و الآباء اللذين استفادوا من كتاب «إقرأ.»
بالمناسبة، إني أعيد قراءة نصوصها و لا أخفيك أني أجد بها متعة غريبة.
و إذا كان الشيخ يكتفي بالتوجيه الديني والصلاة لمريديه و قراءة الأوراد والأذكار، فأنت كتبت وعلمت و نشرت فخدمت الدين والدنيا . أليس كذلك سيدي ؟ أشعر أن تواضعك يلزمك الصمت. ولكن بعد هذه المجالسة الممتعة معك، من خلال كتبك، ومعارفك، دعني سيدي، الآن، أتوجه لهذه الأجيال التي تنكرت لك، وتلك التي لم تحض بمعرفتك، فقط لأن آباءهم، فروا بهم نحو التعليم الخاص، بعدما عاتت مافيا التأليف المدرسي فسادا في البرامج، أو ظنا منهم أن كتب الغرب الحاملة لقيمه، ستوفر لفلذات أكبادهم حظوظا متميزة للحصول على مستقبل خير من مستقبل آبائهم وعيش أفضل من عيش هؤلاء.

 قم للمعلم... -7- الباب الرابع: قفوا!
 هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة.هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية.
و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت .
قفوا !
قلت قفوا !
ما هذه الفوضى في الصفوف ؟
اصغوا جيدا لما سأقص عليكم. ومن فقه منكم مغزاه، فليفسره لمن لم يفقه ويبلغ ذويه والغائب منكم.
قفوا قلت ! . مالي أرى الخوف يكتسي سحناتكم، وكأني بكم نعاجا أمام راع متشدد . على كل حال خوفكم لا يدهشني . ما دام الخوف ثقافة نكرسها بين أبنائنا.
لقد تربيت قبلكم مع: «خوخو ابلع» و «بو خنشة»و « دابا يجي بوك و انكولها ليه « و « حدر عينيك «
وهكذا ازداد الخوف معنا، منذ الولادة وتربينا في أحضانه.
فبعد تهديد الأم ، ذهبنا عند الفقيه ووجدناه لا يفارق « مشحاطته» يخبط بها خبط عشواء، من يصبه يدمي جلده؛ ومن يخطئ، يعيد عليه الكرة حتى يتبول في سرواله. و في المساء، وقت قراءة الحزب، فلا تجد الفقيه يختار من الآيات، إلا تلك التي تهدد وتتوعد بالنار والعقاب الشديد. ولم يع الفقيه أبدا، أنه عوض أن يخيف أهل القرية، كان يخيفنا نحن أولا.
ولما التحقنا بالثانوي، وكان علينا الإبتعاد عن الأهل، لتحصيل العلوم العصرية، كانت تلاحقنا على الدوام وصايا الوالد والوالدة:
« ادخل سوق راسك آسيدي، انت غادي تقرا ما غاديش تدير السياسة «.
وحتى لما بلغنا سن الرشد، ووقفنا وراء الفقيه، بدل أن نجلس أمامه،لأنه ترقى وأصبح إمام المسجد، كما ترقينا نحن من صعاليك مبتدئين إلى مصلين يغطي الشعر دقون أكثرنا، كان الفقيه لا يتورع في مطاردتنا بنفس الآيات، و كأن القرآن الكريم الحاوي العديد من السور الساحرة، لا يتضمن إلا تلك السور المرعبة.
وتوظفنا... و لما حاولنا المطالبة ببعض الحقوق، كما يطالب بها موظفو جميع الدول التي تحترم مواطنيها، لم يمنع التوظيف الكثيرمنا من سماع:
«اسكت لدين امك ولا انكلسك اعلى الق... «، داخل الكوميساريات و المقاطعات.
أطلب منكم اليوم أن تنسوا كل هذه التهديدات. أنا عمكم الفقيهي ألا تتذكرون؟ ذلك الذي علمكم، بجانب جيش من زملائه، بعدما كنتم لا تعلمون، بعيدا عن المسيد، دون عصى و لا تهديد ؟
عمكم الفقيهي ، المعلم ابن المعلم الذي ? شأنه شأن سيدي أحمد بوكماخ - فضل أن يكون معلما منسيا في إحدى ربوع البلاد، على أن يكون شرطيا أو دركيا يخطف الدريهمات من جيوب السائقين.
نعم العديد من جنود التعليم قضى سنوات من أجمل أيام عمره، متنقلا من دوار إلى آخر ، ومن قرية إلى أخرى، ممتطيا ظهور البغال والحمير للوصول إلى قمم الجبال، أو مستقلا حافلات النقل السري التي يجدها تارة، وتارات أخرى لايجد في جيبه ما يعطيه الحق في امتطائها ؛ فقط لأن وزارة التعليم، كانت تطلب من كل مبتدئ بسلك التعليم، الإنتظار سنة بكاملها، و ما يزيد أحيانا، لتسوية وضعيته المالية، و لأن آباء الكثير منا الذين كانوا يعيشون في القرى تبعد بمآت الكلومترات، كانوا دائما يعتقدون أن أبناءهم لا يزالون يتابعون دراستهم بالثانوي ، فلا يضعوا في يديهم، عند وداعهم، أكثر من العشر دريهمات التي اعتادوا أن يودعوهم بها؛ إلى درجة أن أحد الزملاء لما سويت وضعيته، وعاد إلى البيت بسلل مملوءة مقتنيات ، فوضع بين أيدي أبيه أوراقا نقذية لم يسبق للأب المسكين أن تصرف في مثلها ، قال له أبوه الذي لا يعلم أن ابنه أصبح موظفا بسلك التعليم :
« يا بني أرجوك ، إذا كانت هذه الفلوس حرام ، ها السخط ، ها الرضا إلى ما ردها لماليها»
نعم أعزائي الصغار ، أنتم الذين كبرتم اليوم، وغزت شعيرات الشيب مناطق من رؤوسكم، اعلموا أنه كان يوجد من بيننا من يبيت الليل في قمة الجبال الباردة، يفترش حصيرا في البداية ،ثم لما يقترض بعض النقود من زميل أو صديق، كان يشتري «امضربة من الحلفاء « و»كاشة» ويستعين بحائك يجود به عليه أحد أعيان القبيلة، عندما يرثي لحاله؛ لأنه غالبا ما كان البعض منا أشبه بمتسول منه بمربي .
أنتم تستغربون الآن مبتسمين، لما أحكي. لكنه الواقع. الواقع الذي عاشته عساكر التعليم خلال السبعينيات؛ وعاشه سيدي أحمد بوكماخ بشكل مختلف، خلال الستينيات و ما قبل ، دون شك، لما كان يقضي الليل بالمدرسة الإسلامية الحجرة التي سمح له سيدي عبد الله كنون بالمبيت فيها، متنقلا من كتاب لكتاب، ومن رف لرف، عله يجد الكلمة الصحيحة أو التعبير السديد أو التمرين الملائم، ليقدمه لنا نحن، جيل ما بعد الإستقلال، طبقا شهيا بين صفحات كتاب إقرأ.
والكثير من بين من انخرط منا، بداية السبعينيات، في سلك التعليم، كان قد غادر الجامعات مكرها، بسب ظروف الحياة أو مطرودا، على إثر إضرابات، ليلتحق بسلك التعليم. ومن لم يكن لهم من سند وقت التعيين، طوح بهم نحو المناطق المنسية، غير الموجودة على الخريطة السياسية للبلاد.
كان الكثيرمنا يقتات بما يجود به عليه أهل الدوار من بيض وشاي ولبن وحليب و رايب أوخبز حاف، بارد أحيانا؛ تفوح منه رائحة روث البهائم المحروق، في انتظار أن تتذكر وزارة التعليم، أن جنودا لها يرابطون هناك، بإحدى المناطق النائية، يقضون الليل ساهرين، منكبين على ضوء الشمع، يهيئون درسا أو يصححون التمارين، مرهفي السمع لوقع خطى أحد السكان، عساه يأتيهم بما يسدون به رمقهم أو على الأقل يؤنسهم في وحدتهم.
أنا لم آت اليوم لأقص عليكم قصة معلم في الأرياف. جئت فقط لأحدثكم عن معلم. قالوا عن المعلم عموما أنه « كاد أن يكون رسولا « و أقول أنا، إنه فعلا رسول يحمل رسالة نبيلة كما جاء محمد حاملا رسالته؛ إلا أن هذه تتعلق بتربية النشإ بالمغرب ، و تلك تتعلق بتربية الناس عامة وتنظيم الحياة الدنيا. و كل بلغ رسالته على قدر ما كانت تسمح له به ظروفه.
أعزائي الصغار الكبار ،
لقد أخذني الحنين لرائحة القسم، فجئت اليوم لألقي درسا آخر، درسا من نوع مغاير وبطريقة مغايرة. فلا تتنكرون لي كما تنكر آباؤكم لسيدي أحمد بوكماخ .
اليوم لا لائحة للغياب ولا أسئلة للتنقيط . لا تمارين ولا امتحانات ولا توبيخ . أريد فقط أن أحدثكم عن سيدي أحمد . نعم سيدي أحمد بوكماخ الذي تتلمذ آباؤكم على كتبه ، و الذي بفضل تلك الأحرف الأولى « با، بو، بي، « ، ثم بعدها، تلك الكلمات البسيطة الأولى التي وضعها في أفواهنا : « بقرة ، حمار ، جرس، فرفر « استطاع كل منا أن يشق طريقه، حسب الظروف والإمكانيات ، طبعا. فصار منا المعلم و الممرض والشرطي والدركي والجندي وموظف الإدارات . وصار منهم ( أولائك الذين بعث بهم أباءهم إلى مدارس الإفرنج، مستغلين مناصبهم) الوزراء وكتاب الدولة ومدراء كبار بالإدارة المغربية.
انتبهوا الآن. انتهى كلامي . أعطيكم الكلمة . السؤال الأول :
من هو أحمد بوكماخ ؟
لا أرى أصبعا يطلب الإجابة. هذا لا يدهشني.
إنه ذلك الرجل الذي غرس فأكلنا ، ثم غرسنا بدورنا لتطعمون.
 

قم للمعلم.. 8 : الباب الخامس
 إنه لغريب أمر هذا السيد أعزائي ؛ هو الذي ألف للأجيال منذ بزوغ الإستقلال، أي منذ ما ينيف على خمسين عاما، لم تأخذ أحد، من بين هذه الجيوش من المتعلمين على صفحات كتبه، ولو من باب الفضول، الرغبة لرد شيء من الجميل، بكتابة مقال يبحث فيه في وجه من الوجوه العديدة لحياته المليئة بالعطاءات والتضحيات، أو يسطر له بورتريها ولو بطريقة كاريكاتورية، للتعريف به على الأقل؛ باستثناء أحد الباحثين الطنجاويين الأستاذ عبد الصمد العشاب، الذي خصص له صفحتين و نصف وسط عمل نشر مؤخرا حول رجالات طنجة؛ أو ما قدمه الصحفي رشيد نيني، الذي كرس له عشرين دقيقة من خلال برنامجه « نوسطالجيا «. بإيحاء ومساعدة الإعلامي «المناضل» بإداعة طنجة الأستاذ عبد اللطيف بن يحيا.
ولقد علمنا أخيرا أن نادي ثقافي بنفس المدينة نظم أول ندوة تكريما لروحه، بعد ما يزيد على عشرين سنة من وفاته.
قليل من يعلم أن سيدي أحمد بوكماخ ولد بطنجة في السنة العشرين بعد التسع مائة وألف. أنا شخصيا، لا أدري لماذا كنت أتصوره دائما بدون مكان مستقر. كان بالنسبة إلي، و أنا تلميذ، أتصوره كما أتصور شخصيات الروايات ، يسكن بين أوراق مؤلفاته «إقرأ «. إلا أنني علمت، فيما بعد، أن سيدي أحمد كان، لكثرة حبه للعلم والمطالعة، فعلا، يسكن بين الأوراق. كان رحمه الله، شأنه شأن الجاحظ ، يسكن بين كتب خزانة المدرسة التي كان يعلم بها. وحتى و إن لم يكن كذلك ، فإنه باختياره التأليف، اختار أن يعيش ويموت كدا واجتهادا، لكي يبقى حيا بين كتبه. وهذا يذكرني بالكاتب الفرنسي ، أو كاتب القصر الكبير كما كان يسمى، « جون جيني «، الذي لم يكن له مكان يستقر فيه، فكان يضع كعنوان له، عنوان دار النشر التي كان يتعامل معها.
اعلموا رحمكم الله، أن سيدي أحمد هذا، و لو أنه ولد بطنجة، إلا أن جده جاء إلى المدينة نازحا إليها من مدينة تارودانت. و هذا يعني أن لسيدي أحمد أصول سوسية ؛ و أنه جمع المجد من أطرافه : دكاء سوس و أناقة الشمال . وقد قال الحسن الثاني ذات خطبة، متحدثا على ما يبدو على جبهة البوليساريو:
« إحدروا، إن الخير والشر يأتيان من الجنوب. «
لكن من الملاحظ، أن الخير أتى هذه المرة من الشمال، الممزوج بالجنوب.
ستسألونني دون شك، ما علاقة طنجة بسوس ؟ نحن نعلم أن السوسيين ينزحون غالبا نحو المدن المجاورة مثل أكادير ومراكش، أو الإقتصادية أوالعلمية مثل الدارالبيضاء وفاس؟
حقا، هذا صحيح، إلا أن الطنجاويين وحدهم، يعلمون أن الجالية السوسية، من أكبر القبائل عددا، النازحة إلى مدينتهم، وأكثرها وجودا . أي أن لأهل سوس حضورا بطنجة ومنذ القدم. و لا أدل على ذلك، إلا نشاطهم التجاري المتواجد بالمدينة.
فهم يعتبرون العمود الفقري الإقتصادي بالمدينة. ومع ذلك، لم ينسهم الجانب التجاري جانبهم الروحي والديني؛ إذ ينتسبون إلى الطريقة التيجانية. ولقد بنوا بالمدينة مسجدا له تاريخ قديم، يعرف بمسجد سيدي بوعبيد.
ولا يمكن للمطلع على حياة سيدي أحمد بوكماخ ألا يتساءل، كيف أمكن لطفل فقد أمه في سن مبكرة، أي أنه كان يتيم الأم، كيف أمكن له أن يحقق ما وصل إليه . ونحن نعرف أن الأم بالنسبة للطفل هي المنهل الذي يغترف منه ما يساعده من حب وعطف وحنان ليتسنى له شق طريقه نحو المستقبل. بل هناك من بين أطفالنا اليوم، « مما يسمون أطفال حليب الكوكز « - لاحظوا معي أعزائي أنه أصبح لدينا اليوم أنواع شتى من الأجيال. فهناك أطفال حليب الكوكز، و أطفال الكوكل ، بغض النظر عن أطفال الأنابيب و أطفال الشوارع، كما أصبح لدينا شباب الفيس بوك، وشباب الهيب هوب ، و شباب عشرين فبراير؛ قلت هناك من بين أطفالنا من لا يستفيق من نومه إلا تحت ملامسات أمه و مداعبتها له أو تحت ضغط صراخها. إلا أنه من حسن حظ سيدي أحمد، أنه كان له أب ليس فقيها فقط، ومحبا للعلم؛ ولكنه كان مرحا، يجيد النكتة حسب الأستاذ عبد الصمد الذي عرفه عن كتب ، و كان ينشر حوله جوا من السرور أينما حل و ارتحل .
نعم كان السي عبد السلام بوكماخ فقيها، ليس بمعنى فقيه كتاب، كما يضيف مؤكدا الأستاذ السي عبد الصمد العشاب دائما ، و لا بمعنى فقيه الوعض والإرشاد في المساجد، و لكنه كان مثقفا بالطريقة القديمة. و له دراية واتصال، بل و معاشرة بالزوايا وبالتصوف؛ وكان يحسب له حساب في مجالس السماع، خلال عيد المولد النبوي؛ ولم يكن ينسى السي عبد السلام بو كماخ، اصطحاب ابنه معه، كلما استدعي لإحدى الجلسات الصوفية. و هذا شيء يحسب له. فلا نعلم نحن الذين تتلمذنا على يد ابنه السي أحمد، أن أحدا من الآباء في محيطنا، كان يجشم نفسه مغبة اصطحاب ابنه إلى مجالس الكبار، فبالأحرى المجالس الصوفية . وحتى إن فكر أحدهم في السماح لابنه الأوحد بمرافقته، فلا يفعل ذلك إلا لإحدى الولائم، لما كانت تعرفه بطون الكثير منا من حاجة إلى الطعام، نظرا لفاقة العائلة. والمحظوظ منا الذي كانت تسنح له هذه الفرصة، كان يتحمل، سواء خلال الطريق إلى الوليمة، أو حول المائدة، ما يكفي و يزيد من التهديد والتوبيخ إن هو فتح فمه لشيء آخر غير بلع اللقيمات؛ أو جال بنظره من حوله أو حدق في أحد الحاضرين .
كان للسي بوكماخ الأب إذن هم تربوي . وكانت له نظرة تربوية لا تبعد عن الحداثة دون علم منه ربما .
كان يدرك دون أدنى شك، أن السماح للأطفال حضور مجالس الكبار، منذ نعومة الأظافر ، يوسع من زاوية الرؤيا عندهم، ويجعلهم يعون أن هناك عالما غير عالم الطفولة ، تطبعه الجدية و الوقار والإحترام المتبادل؛ مما يجعل شخصية الطفل المحتك بالكبار، وهي تنمو، تتسم شيئا فشيئا بالجد والإحساس بالمسؤولية . وغالبا ما نلاحظ أن الأطفال الذين نعموا بتربية من هذا النوع ، يبلغون سن النضج قبل الرشد ويتحلون بالتطلع إلى تحمل المسؤولية قبل الأوان.
وهذا فعلا ما حصل لسيدي أحمد بوكماخ، الذي سيغادر البيت الأسري في وقت مبكر من شبابه، ليتحمل مصاريفه ويخفف من تكاليف الأسرة، ذات الأفراد الكثر، التي كان ينتمي إليها؛ مغادرته بيت العائلة لم يمنعه من تحمل مسؤولية الأب لما القي ألقبض عليه وسجن لمدة تزيد على السنة. أضف إلى هذا أنه سينطلق في التأليف المدرسي ويتحمل مسؤولياته وهو في الرابعة والثلاتين من عمره.
ولم يكتف السي أبو اكماخ الأب بهذا النوع من التلقين والتربية غير المباشرين، و لكنه بعث بابنه إلى المسيد، وهو الجامع الكبير، الموجود بطنجة، ليتعلم مبادء القراءة والكتابة؛ كما كان يفعل جل الآباء آنذاك، ذوو الثقافة التقليدية والذين كانوا يخافون من أن يؤثر التعليم الإستعماري على عقيدة أبنائهم. وقد يكون السي عبد السلام بوكماخ وجه ابنه نحو المدارس العتيقة لأن هذا النوع من التعليم هو الوحيد الذي كان متوفرا للعديد من أبناء الأهالي خلال الحماية ؛ علما أن التعليم العمومي لم يكن مفتوحا في وجه أطفال جميع الشرائح ، خلال تلك الفترة.
يقول جون جيمس ديمس في كتابه (حركة المدارس الحرة بالمغرب 1919-1970) :
« فباستثناء الطبقة الراقية، كان الآباء المغاربة في العشرينات مقتنعين بأن أبناءهم سيصبحون ملحدين أو مسيحيين وسوف لا يحترمون القيم السائدة إن هم ولجوا مدارس الحماية. وهذا هو السبب في قيام بعضهم بتسجيل أبنائهم بالمدارس الحرة «.
ولكن رغم أن الفقيه السي عبد السلام بوكماخ قام بتسجيل ابنه بمدرسة حرة، بدل المدرسة العصرية ، فإنه كان على درجة كبيرة من الوعي على ما يبدو من تعامله مع ابنه؛ ذلك أنه في أوج الإستعمار، أي في وقت لم تكن فيه المدارس مفتوحة في وجه عامة الطفولة ، وحتى من كان يرغب في تحصيل العلم، كان في أحسن الأحوال يتوجه للمدارس العتيقة أو إلى المسيد لحفظ القرآن؛ أقول في ذلك الإبان ، حرس السي بوكماخ على أن يكون بجانب ابنه كتاب على الدوام لا يفارقه أبدا؛ وذلك بشهادة أخته ، خلال البرنامج المشار إليه سابقا.
كان السي بوكماخ الأب إذن، ينعم بشخصية مختلفة على شخصيات غيره من بني جيله؛ ذلك أنه كان رجلا محبا للعلم، الشيء الذي لم يكن هم عامة الناس آنذاك . فبالإضافة إلى السهر على أن يظل ابنه مصاحبا لكتاب ، قسم السي بوكماخ متجره إلى جزئين، فخصص قسما منه لبيع الخبز الذي كان يعده بفرن في ملكه، وخصص الباقي لبيع الكتب . و لهذا يمكن القول، دون مجازفة، أن السي بوكماخ الأب، أي السي عبد السلام، كان يسهر على تغدية الجسم و الر وح لساكنة حيه بطنجة . و هذا ينم على أن الرجل كان له وعي يتجاوز الوعي المنتشر حوله لدى ساكنة الحي. ولا يمكن للباحث ألا يتساءل من أين جاء هذا الوعي لفقيه اشتغل بالتجارة، بدل الإشتغال كفقيه، يعلم القرآن ويؤم الصلوات بأحد المساجد. إنه وعي ناتج دون ريب عن احتكاك السي بو كماخ، وهو طنجاوي المنشأ، بالسكان الأجانب، الذين كانوا يعمرون المدينة وهي آنذاك منطقة دولية.
غدا: ومن النضال أشكال
و . . . أشكال

 قم للمعلم... -9- ... ومن النضال أشكال و . . . أشكال
 هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة.هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية.
و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت .
تعيرنا بأن قليل عديدنا - فقلت لها إن الرواد قليل
هذا بيت للسموأل، حرفت منه كلمة طبعا فوضعت «» الرواد « مكان « الكرام»، والحقيقة أن أصحاب الريادة شأنهم شأن الكرام قليلون؛ وذلك بشهادة التاريخ . كان الأستاذ بوكماخ يردد هذا البيت كثيرا ، حسب شهادة الإعلامي بإذاعة طنجة الأستاذ عبد اللطيف بن يحيا،الذي ردده هو نفسه على مسامع الحاضرين وهو ينشط تلك الندوة الأولى التي أقيمت تكريما لروح المربي الرائد أحمد بوكماخ. وسنعود لريادة بوكماخ بعد التطرق لنضاله الساكت والمسكوت عنه.
«المثقف هو أصلا مناضل. ولو لم يكن كذلك ،لتوقف عن الكتابة والنشر» . هذا ما جاء على لسان الشاعر و الروائي حسن نجمي خلال حديث تجاذبناه في مكتبه، وهو ساعتئذ مسؤول على مصلحة الكتاب بوزارة الثقافة.
أنا لا أقصد النضال بالمعنى المتعارف عليه اليوم . أعلم أنكم أنتم الذين عزفتم عن السياسة والسياسيين، فقدتم ثقتكم في كل من يتناول خطابا تفوح منه رائحة الانتخابات والأحزاب والنضال. وأصبحت لديكم حساسية إزاء كل مناضل؛ سواء كان صادقا مثل أولئك الذين قضوا نحبهم ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، شيخ العرب والمعطي التادلاوي ولحسن إيدار أو أولئك الوصوليين، والأمثلة كثيرة حولكم، منذ أن أدلى الاشتراكيون بدلوهم ببئر الحكومة.
من المنطقي إذن أن تختلط عليكم الأوراق. والحقيقة أن أولي الأمر منا و من يتشيع لهم، يحبذون أن تظل الأوراق مختلطة؛ لأنهم يجدون راحتهم ومبتغاهم في الغموض والإبهام، هم مثل الضفادع، لا يعيشون إلا في الماء العكر. وهذا الماء العكر يفسد الذوق ويجعلنا نحسب كل ماء عكر. ولهذا قررت أن أفتح قوسا، قبل الاستمرار في الحديث عن معلمنا سيدي أحمد قصد إضاءة الأذهان.
ما هذا الضجيج ؟
استمعوا إلي لحظة من فضلكم، ثم احتجوا من بعد كما يحلو لكم !
ما هوالنضال ؟
يكاد ينفرد عندنا رجل السياسة بنعت المناضل. فعندما ينطق أحدهم بكلمة مناضل، فإن تفكيرنا يتجه مباشرة إلى السياسة؛ وذلك بحكم تداول هذا المصطلح غالبا من قبل الإعلاميين، بنعتهم الساسة وحدهم بالمناضلين، دون الإشارة إلى أن هؤلاء الساسة إنما هم يناضلون بنا نحن وفينا كما يناضلون في المال العام.
إن النضال في الواقع له ميادين شتى. فهناك من يناضل في إطار ديني، و يسمونه داعية ، و هناك من يناضل داخل المجتمع المدني، للدفاع عن قضية من قضايا الساعة، كاحترام البيئة أو تحرير المرأة أو إهدار المال العام، إلى غير ذلك من القضايا الراهنة التي تشغل الرأي العام، ويسمونه فاعلا جمعويا. وهناك من يناضل في نفسه حتى، وذلك من أجل كبح جماح هواها و تطويعها و يسمى الزاهد.
وإذا عدنا لمعلمنا سيدي أحمد، ولمؤلفاته، يمكن القول بدون أدنى مجازفة أنه كان يتمتع بكل هذه الصفات وحده ، بمعية مؤلفاته، كان السي بو كماخ المناضل السياسي والفاعل الجمعوي و الزاهد في ذات الوقت.
إنني أعتقد شخصيا أن في اختيار السي بوكماخ لمهنة التعليم ، في وقت كانت فيه المناصب المغرية تهدى، هو نضال في حد ذاته .
يقول جيمس ديمس في كتابه حركة المدارس الحرة بالمغرب الصفحة 111:
« و لقد غادر العديد من مدرسي المدارس الحرة التعليم في بداية الاستقلال للالتحاق بوظائف ذات رواتب عالية في الإدارة أو قطاع الأعمال. «
إن قرار السي أحمد البقاء في قطاع التعليم يعد قرارا نضاليا وزاهدا في نفس الوقت. ويدل على أنه كان للرجل ليس فقط قناعة وإيمان عند انخراطه واستمراره في سلك التعليم و إنما مشروع؛ و مما يشي بما نقول ، أنه لم يكتف باختيار مهنة التدريس؛ ولكنه فكر في التأليف؛ لأنه ، بغض النظر على ما كان يستورد من كتب مدرسية من بلدان الشرق، لم تكن توجد مراجع تعليمية مغربية باللغة العربية، خلال الخمسينيات، يمكن للمعلمين الاعتماد عليها عند تحضير الدرس ، أو للتلاميذ الاستعانة بها وقت المراجعة. لكن الأستاذ سيدي أحمد أغمض عينيه وقفز للسباحة، وبجانبه و لا ريب مدرب واحد ألا وهو أستاذه الجليل و أستاذنا جميعا سيدي عبد الله كنون. فلنستمع لشهادة السي بوكماخ شخصيا في مقال بجريدة الخضراء التي اهتمت به منذ انطلاقتها في صيف 1990 :
سأل الصحفي :»- وإلى جانب الموهبة المسرحية هل هناك عنصر آخر مشجع ؟
- هناك عالم جليل هو أستاذنا عبد الله كنون ( رحمه الله ) ، فعندما لاحظ موهبتي في مجال الكتابة، طلب مني العمل معه بالمدرسة .
- إذن كان للعلامة كنون دور ما في حياتك ؟
فأجاب سيدي أحمد :
- طبعا . . . وهو دور مهم . فأنا لم أتخرج من مدرسة تكوين ، بل درست الثانوي بالمعهد الديني. والأستاذ عبد الله كنون هو الذي وجهني إلى التعليم . . . ومن التعليم صرت أستخرج الكتب و التمارين والأسئلة . . . وهكذا بدأت « إقرأ « . . . «
حقا كان هناك السي عبد السلام جسوس، صاحب دار الطبع و النشر «دار الفكر المغربية» ، الموجودة آنذاك، بشارع الحرية بطنجة، بجانبه كذلك لييسر له الخطوات الأولى العملية فاهتم بطبع الكتاب على الأقل، و طمأنه من حيث برمجتها بالمدارس الحكومية، نظرا لما كان لهذا الرجل من نفوذ، أحسن استغلالها، داخل حزب الاستقلال الذي تولى آنذاك شؤون البلاد والعباد ؛ ولكن ذلك لم يكن ليكفي لإنجاز كتاب تعليمي موجه لأبناء شرائح مختلفة من البلاد، ولمدرسين متفاوتي التكوين و السن والعقليات. من المؤكد أن تأليف كتب «إقرأ» تطلبت من الأستاذ سيدي أحمد بوكماخ مجهودا كبيرا ، ومعاناة حقيقية . فلنستمع إليه وهو يتحدث لصحفي بجريدة الخضراء عن بداية تجربته مع التأليف :
«بدأت عام 1954 . لقد انطلقت من التحضيري ، فألفت كتابا له؛ ثم انتقلت إلى الأقسام العليا، فصرت بعد كل سنتين أؤلف جزءا إلى غاية 1664 «
هكذا و في الوقت الذي كان فيه الآخرون نياما أو مستيقظين يفكرون فيما يزينون به حياتهم الدنيا من مال ونساء وأولاد، كان فيه أستاذنا سيدي أحمد ينقب بين أمهات الكتب وأخواتها، بحثا عن نص ملائم لعقلية التلميذ المغربي ، أو تمرين مطابق للدرس المعني ، أو عبارة توافق التعبير المنشود . و هذا في نظري هو النضال الحقيقي . من منا مثلا يفكر، لما يلج منزله ويضغط على زر كهربائي فينقشع الظلام أمامه و يستنير المكان ، من منا أقول، يفكر في المراحل التي قطعها اختراع الكهرباء والمصاعب التي عانى منها مخترعه للوصول إلى الغاية المنشودة.
فكذلك الأمر بالنسبة لكتب « إقرأ» أو لأي كتاب من الكتب . فعندما نفتحه ونشرع في قراءة سطوره المكتوبة بجمل متناسقة و تعبير جميل ومفردات منتقات ، فإننا لا نفكر أبدا في الأشواط التي قطعتها تلك الجمل و الغربلة التي عرفتها لتصل إلنا أخيرا كما تصل مضغة الخبز بين الأسنان .
وأذكر أن الكاتب الفرنسي غوسطاف فلوبير كتب كتابه « السيدة بوفاري» عشر مرات، قبل أن يصل أمام قرائه. ولما انتهى منه، كان يغلق عليه باب غرفته و يشرع في قراءته بصوت مرتفع. وأتذكر ما قاله لي أحد الكتاب الشباب ذات صباح :
« اليوم أحرقت ما كنت أعتبره رواية واحتفظت به أكثر من خمس سنوات.»
و بقراءة ممعنة لبعض من نصوص إقرأ، سواء منها تلك المحررة من قبله أو التي ترجمها من لغات أخرى، نكتشف أنه كان مناضلا رائدا في ميادين كثيرة. وهذا النضال يتجلى من خلال فعل اختيار النصوص والمواضيع التي ضمتها كتب إقرأ.
الإختيار كما هو معروف ليس بريئا. إنه يتم حسب هوية الشخص وميولاته وطموحاته وأفكاره.


فقيهي الصحراوي الاتحاد الاشتراكي

إرسال تعليق

0 تعليقات